فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (5):

{أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)}
{أَمْرًا مّنْ عِنْدِنَا} نصب على الاختصاص وتنكيره للتفخيم، والجار والمجرور في موضع الصفة له وتعلقه بيفرق بيس بشيء، والمراد بالعندية أنه على وفق الحكمة والتدبير أي أعني بهذا الأمر أمرًا فخيمًا حاصلًا على مقتضى حكمتنا وتدبيرنا وهو بيان لزيادة فخامته ومدحه، وجوز كونه حالًا من ضمير {أمر} [الدخان: 4] السابق المستتر في حكيم الواقع صفة له أو من {أَمْرٍ} نفسه، وصح مجيء الحال منه مع أنه نكرة لتخصصه بالوصف على أن عموم النكرة المضاف إليها كل مسوغ للحالية من غير احتياج الوصف، وقول السمين: إن فيه القول بالحال من المضاف إليه في غير المواضع المذكورة في النحو صادر عن نظر ضعيف لأنه كالجزء في جواز الاستغناء عنه بأن يقال: يفرق أمر حكيم على إرادة عموم النكرة في الإثبات كما في قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] وقيل: حال من {كُلٌّ} وأيًا ما كان فهو مغاير لذي الحال لوصفه بقوله تعالى: {مّنْ عِنْدِنَا} فيصح وقوعه حالًا من غير لغوية فيه.
وكونها مؤكدة غير متأت مع الوصفية كما لا يخفى على ذي الذهن السليم، وهو على هذه الأوجه واحد الأمور وجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي على أنه واحد الأوامر فحينئذٍ يكون منصوبًا على المصدرية لفعل مضمر من لفظه أي أمرنا أمرًا من عندنا، والجملة بيان لقوله سبحانه: {يُفْرَقُ} [الدخان: 4] إلخ، وقيل: إما أن يكون نصبًا على المصدرية ليفرق لأن كتب الله تعالى للشيء إيجابه وكذلك أمره عز وجل به كأنه قيل: يؤمر بكل شأن مطلوب على وجه الحكمة أمرًا فالأمر وضع موضع الفرقان المستعمل عنى الأمر، وإما أن يكون على الحالية من فاعل {أَنزَلْنَا} [الدخان: 3] أو مفعوله أي إنا أنزلناه آمرين أمرًا أو حال كون الكتاب أمرًا يجب أن يفعل؛ وفي جعل الكتاب نفس الأمر لاشتماله عليه أيضًا تجوز فيه فخامة، وتعقب ذلك في الكشف فقال: فيه ضعف للفصل بالجملتين بين الحال وصاحبها على الثاني ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى بتلك الليلة على الأول.
ووجهه أن تخص بالقرآن ولا يجعل قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ} علة للإنزال في الليلة بل هو تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه: {إِنَّا أنزلناه فِي لَيْلَةٍ مباركة} [الدخان: 3] على معنى فيها أنزل الكتاب المبين الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم كأنه جعل الكتاب كله أمرًا أو ما أمر به كل المأمورات وفيه مبالغة حسنة، ولا يخفى أن في فهمه من الآية تكلفًا.
وقال الخفاجي في أمر الفصل: إنه لا يضر ذلك الفاصل على الاعتراض وكذا على التعليل لأنه غير أجنبي.
وجوز بعضهم على تقدير أن يراد بالأمر ضد النهي كونه مفعولًا له والعامل فيه {يُفْرَقُ} أو {أَنزَلْنَا} أو {مُّنذِرِينَ}.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {أَمْرٍ} بالرفع وهي تنصر كون انتصابه في قراءة الجمهور على الاختصاص لأن الرفع عليه فيها.

.تفسير الآية رقم (6):

{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)}
وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} تعليل ليفرق أو لقوله تعالى: {أَمْرًا مّنْ عِنْدِنَا} ورحمة مفعول به لمرسلين وتنوينها للتفخيم، والجار والمجرور في موضع الصفة لها، وإيقاع الإرسال عليها هنا كإيقاعه عليها في قوله سبحانه: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2] والمعنى على ما في الكشاف يفصل في هذه الليلة كل أمر لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة أي أن المقصود الأصلي بالذات من ذلك الرحمة أو تصدر الأوامر من عندنا لأن من عادتنا ذلك والأوامر الصادرة من جهته تعالى من باب الرحمة أيضًا لأن الغاية لتكليف العباد تعريضهم للمنافع، وفيه كما قيل إشارة إلى أن جعله تعليلًا لقوله سبحانه: أمرًا من عندنا إنما هو على تقدير أن يراد بالأمر مقابل النهي وهو يجري على تقديري المصدرية والحالية.
وفي الكشف أن قوله: يفصل إلخ أو تصدر الأوامر إلخ تبيين لمعنى التعليل على التفسيرين في {يُفْرَقُ} [الدخان: 4] لأنه أما عنى الفصل على الحقيقة من قسمة الأرزاق وغيرها أو عنى يؤمر والشأن المطلوب يكون مأمورًا به لا محالة فحاصله يرجع إلى قوله: أو تصدر الأوامر من عندنا لا لوجهي التعليل من تعلقه بيفرق أو بأمرًا فإن تعلقه بأمرًا إنما يصح إذا نصب على الاختصاص وإذ ذاك ليس الأمر ما يقابل النهي لأن الأمر إذا كان المقابل فهو إما مصدر وإنما يعلل فعله وإما حال مؤكدة فيكون راجعًا إلى تعليل الإنزال المخصوص وليس المقصود وإنما لم يذكر المعنى على تقدير تعلقه بأمرًا لأن المعنى الأول يصلح تفسيرًا له أيضًا انتهى.
والظاهر كون ذلك تبيينًا لوجهي التعليل، وما ذكر في نفيه لا يخلو عن بحث كما يعرف بالتأمل، واعتبار العادة في بيان المعنى جاء من كنا فإنه يقال: كان يفعل كذا لما تكرر وقوعه وصار عادة كما صرحوا به في الكتب الحديثية وغيرها ولإفادة ذلك عدل عن أنا مرسلون الأخصر وقوله سبحانه: {مِن رَبّكَ} وضع فيه الظاهر موضع الضمير والأصل منا فجيء بلفظ الرب مضافًا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم على وجه تخصيص الخطاب به صلى الله عليه وسلم تشريفًا له عليه الصلاة والسلام ودلالة على أن كونه سبحانه ربك وأنت مبعوث رحمة للعالمين مما يقتضي أن يرسل الرحمة.
وقال الطيبي: خص الخطاب برسوله عليه الصلاة والسلام والمراد العموم، والأصل من ربكم وجيء بلفظ الرب ليؤذن بأن المربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين وليكون تمهيده يبتني عليه التعليل الآتي المتضمن للتعريض بواسطة الحصر بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئًا وتعقب بأنه لو أريد العموم لفاتت النكتة المذكورة ولزم أن يدخل المؤمنون في قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} [الدخان: 7] وما بعده وليس المعنى عليه وفي القلب منه شيء وفسر بعضهم الرحمة المرسلة بنبينا صلى الله عليه وسلم ولا يخفى أن صحة التعليل تأبى ذلك.
وجوز أن يكون قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} بدلًا من قوله سبحانه: {إنا كنا منذرين} [الدخان: 3] الواقع تعليلًا لإنزال الكتاب بدل كل أو اشتمال باعتبار الإرسال والإنذار، ويكون {رَحْمَةً} حينئذٍ مفعولًا له أي أنزلنا القرآن لأن عادتنا إرسال الرسل والكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم واختيار كون الرحمة مفعولًا له ليتطابق البدل والمبدل منه إذ معنى المبدل منه فاعلين الإنذار ويطابقه فاعلين الإرسال ولم يجوز كونها كذلك على وجه التعليل بل أوجب كونها مفعولًا به ليصح إذ لو قيل: فيها تفصيل كل شأن حكيم لأنا فاعلون الإرسال لأجل الرحمة لم يفد أن الفصل رحمة ولا أنه سبحانه مرسل فلا يستقيم التعليل قيل وينصر نصب رحمة على المفعول قراءة الحسن وزيد بن علي برفعها لأن الكلام عليه جملة مستأنفة أي هي {رَحْمَةً} تعليلًا للإرسال فيلائم القول بأنها في قراءة النصب مفعول له وليطابق قراءتهما في كون معنى {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إنا كنا فاعلين الإرسال، وقال بعض أجلة المحققين: أن القول بأنه تعليل أظهر من القول بأنه بدل ليكون الكلام على نسق في التعليل غب التعليل، ولما ذكر في الحالة المقتضية للإبدال ولوقوع الفصل، وأشار على ما قيل بما ذكر في الحالة المقتضية للإبدال بأن المبدل منه غير مقصود وأنه في حكم السقوط وههنا ليس كذلك، وتعقب هذا بأنه أغلبي لا مطرد، وقوله: لوقوع الفصل أي بين البدل والمبدل منه بأن الفاصل غير أجنبي فلا يضر الفصل به فتدبر، وجوز كون رحمة مصدرًا لرحمنا مقدر وكونها حالًا من ضمير {مُرْسِلِينَ} وكونها بدلًا من {أمْرًا} فلا تغفل {إِنَّهُ هُوَ السميع} لكل مسموع فيسمع أقوال العباد {العليم} لكل معلوم فيعلم أحوالهم، وتوسيط الضمير مع تعريف الطرفين لإفادة الحصر، والجملة تحقيق لربوبيته عز وجل وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته، وفي تخصيص {السميع العليم} على ما قال الطيبي إدماج لوعيد الكفار ووعد المؤمنين الذين تلقوا الرحمة بأنواع الشكر.

.تفسير الآية رقم (7):

{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)}
{رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بدل من {رَبَّكَ} [الدخان: 6] أو بيان أو نعت.
وقرأ غير واحد من السبعة والأعرج. وابن أبي إسحاق. وأبو جعفر. وشيبة بالرفع على أنه خبر آخر لإن أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب، والجملة مستأنفة لإثبات ما قبلها وتعليله {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إن كنتم ممن عنده شيء من الإيقان وطرف من العلوم اليقينية على أن الوصف المتعدي منزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى ما يتعلق به، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من أهل الإيقان علمتم كونه سبحانه رب السموات والأرض لأنه من أظهر اليقينيات دليلًا وحينئذٍ يلزمكم القول بما يقتضيه مما ذكر أولًا، ويجوز أن يكون مفعوله مقدرًا أي إن كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم عمن خلق السموات والأرض فقلتم الله تعالى خلقهن، والجواب أيضًا محذوف أي إن كنتم موقنين في إقراركم بذلك علمتم ما يقتضيه مما تقدم لظهور اقتضائه إياه، وجعل غير واحد الجواب على الوجهين تحقق عندكم ما قلناه، ولم يجوزوا جعله مضمون {رَبّ السموات} إلخ لأنه سبحانه كذلك أيقنوا أم لم يوقنوا فلا معنى لجعله دالًا عليه، وكذا جعله مضمون ما بعد بل هذا مما لا يحسن باعتبار العلم أيضًا.
وفي هذا الشرط تنزيل إيقانهم منزلة عدمه لظهور خلافه عليهم، وهو مراد من قال: إنه من باب تنزيل العالم منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، قيل: ولا يصح أن يقال: إنهم نزلوا منزلة الشاكين لمكان قوله سبحانه بعد: {بْل هُمْ في شَكّ} [الدخان: 9] ولا أرى بأسًا في أن يقال: إنهم نزلوا أولًا كذلك ثم سجل عليهم بالشك لأنهم وإن أقروا بأنه عز وجل رب السموات والأرض لم ينفكوا عن الشك لإلحادهم في صفاته سبحانه وإشراكهم به تعالى شأنه.
وجوز أن يكون {مُّوقِنِينَ} مجازًا عن مريدين الإيقان والجواب محذوف أيضًا أي إن كنتم مريدين الإيقان فاعلموا ذلك، وفيه بعد، وأما جعل {ءانٍ} نافية كما حكاه النيسابوري فليس بشيء كما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (8):

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)}
{لاَ إله إِلاَّ هُوَ} جملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وقيل: خبر لمبتدأ محذوف أي هو سبحانه لا إله إلا هو؛ وجملة المبتدأ وخبره مستأنفة مقررة لذلك، وقيل: خبر آخر لإن على قراءة {رَبّ السموات} [الدخان: 7] بالرفع وجعله خبرًا، وقيل: خبر له على تلك القراءة وما بينهما اعتراض {لاَ إله} مستأنفة كما قبلها، وكذا قوله تعالى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاولين} بإضمار مبتدأ أو بدل من {رَبّ السموات} على تلك القراءة أو بيان أو نعت له، وقيل: فاعل ليميت، وفي {يُحْىِ} ضمير راجع إليه والكلام من باب التنازع أو إلى {رَبّ السموات}، وقيل: {لاَ إله} خبر آخر لرب السموات وكذا {رَبُّكُمْ} وقيل: هما خبران آخران لإن، وقرأ ابن أبي إسحاق. وابن محيصن. وأبو حيوة. والزعفراني وابن مقسم. والحسن. وأبو موسى. وعيسى بن سليمان. وصالح كلاهما عن الكسائي بالجر بدلًا من {رَبّ السموات} على قراءة الجر، وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي بالنصب على المدح.

.تفسير الآية رقم (9):

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}
{بْل هُمْ في شَكّ} إضراب إبطالي أبطل به إيقانهم لعدم جريهم على موجبه، وتنوين {شَكٌّ} للتعظيم أي في شك عظيم {يَلْعَبُونَ} لا يقولون ما يقولون مما هو مطابق لنفي الأمر عن جد وإذعان بل يقولونه مخلوطًا بهزء ولعب وهذه الجملة خبر بعد خبر لهم.
وجوز أن تكون هي الخبر والظرف متعلق بالفعل قدم للفاصلة، والالتفات عن خطابهم لفرط عنادهم وعدم التفاتهم، والفاء في قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (10):

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)}
{فارتقب} لترتيب الارتقاب أو الأمر به على ما قبلها فإن كونهم في شك يلعبون مما يوجب ذلك حتمًا أي فانتظر لهم {يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} أي يوم تأتي بجدب ومجاعة فإن الجائع جدًا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان وهي ظلمة تعرض للبصر لضعفه فيتوهم ذلك فإطلاق الدخان على ذلك المرئي باعتبار أن الرائي يتوهمه دخانًا، ولا يأباه وصفه بين وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز من باب ذكر المسبب وإرادة السبب أو لأن الهواء يتكدر سنة الجدب بكثرة الغبار لقلة الأمطار المسكنة له فهو كناية عن الجدب وقد فسر أبو عبيدة الدخان به، وقال القتيبي: يسمى دخانًا ليبس الأرض حتى يرتفع منها ما هو كالدخان، وقال بعض العرب: نسمي الشر الغالب دخانًا، ووجه ذلك بأن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه، وأريد به هنا الجدب ومعناه الحقيقي معروف، وقياس جمعه في القلة أدخنة وفي الكثرة دخنان نحو غراب وأغربة وغربان، وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا: دواخن كأنه جمع داخنة تقديرًا، وقرينة التجوز فيه هنا حالية كما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخبر، والمراد باليوم مطلق الزمان وهو مفعول به لارتقب أو ظرف له والمفعول محذوف أي ارتقب وعد الله تعالى في ذلك اليوم وبالسماء جهة العلو، وإسناد الإتيان بذلك إليهما من قبيل الإسناد إلى السبب لأنه يحصل بعدم إمطارها ولم يسند إليه عز وجل مع أنه سبحانه الفاعل حقيقة ليكون الكلام مع سابقه المتضمن إسناد ما هو رحمة إليه تعالى شأنه على وزان قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وتفسير الدخان بما فسرناه به مروى عن قتادة. وأبي العالية. والنخعي. والضحاك. ومجاهد. ومقاتل وهو اختيار الفراء. والزجاج.
وقد روي بطرق كثيرة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أخرج أحمد. والبخاري. وجماعة عن مسروق قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني تركت رجلًا في المسجد يقول في هذه الآية {يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ} إلخ: يغشى الناس قبل يوم القيامة دخان، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام فغضب وكان متكئًا فجلس ثم قال: من علم منكم علمًا فليقل به، ومن لم يكن يعلم فليقل الله تعالى أعلم. فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله تعالى أعلم، وسأحدثكم عن الدخان إن قريشًا لما استصعبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبطؤا عن الإسلام قال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينه كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى: {فارتقب} إِلَى {أَلِيمٌ} [الدخان: 11] فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله استسق الله تعالى لمضر فاستسقى لهم عليه الصلاة والسلام، فسقوا فأنزل الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] الخبر. وفي رواية أخرى صحيحة أنه قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارًا قال: اللهم سبعًا كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا، فادع الله تعالى فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعًا فشكا الناس كثرة المطر فقال: اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقى الناس حولهم قال: فقد مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم الحديث، وظاهره يدل كما في تاريخ ابن كثير على أن القصة كانت كة فالآية مكية.
وفي بعض الروايات أن قصة أبي سفيان كانت بعد الهجرة فلعلها وقعت مرتين، وقد تقدم ما يتعلق بذلك في سورة المؤمنين.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج أنه قال في هذا الدخان: كان في يوم فتح مكة وفي البحر عنه أنهق ال: {يَوْمَ تَأْتِى السماء} وهو يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة، وفي رواية ابن سعيد أن الأعرج يروي عن أبي هريرة أنه قال: كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله تعالى: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ويحسن على هذا القول أن يكون كناية عما حل بأهل مكة في ذلك اليوم من الخوف والذل ونحوهما، وقال علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عمر. وابن عباس. وأبو سعيد الخدري. وزيد بن علي. والحسن: إنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص.
وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان مرفوعًا أول الآيات الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدخان، قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} وقال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يومًا وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيكون نزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، فالدخان على ظاهره والمعنى فارتقب يوم ظهور الدخان.
وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن ابن مسعود أنه كان يقول: هما دخانان مضى واحد والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يصيب المؤمن إلا بالزكمة وأما الكافر فيشق مسامعه فيبعث الله تعالى عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الناس، ولا أظن صحة هذه الرواية عنه.
وحمل ما في الآية على ما يعم الدخانين لا يخفى حاله، وقيل: المراد بيوم تأتي السماء إلخ يوم القيامة فالدخان يحتمل أن يراد به الشدة والشر مجازًا وأن يراد به حقيقته.
وقال الخفاجي: الظاهر عليه أن يكون قوله تعالى: {تَأْتِى السماء} إلى آخره استعارة تمثيلية إذ لا سماء لأنه يوم تشقق فيه السماء فمفرداته على حقيقتها، وأنت تعلم أنه لا مانع من القول بأن السماء كما سمعت أولًا عنى جهة العلو سلمنا أنها عنى الجرم المعروف لكن لا مانع من كون الدخان قبل تشققها بأن يكون حين يخرج الناس من القبور مثلًا بل لا مانع من القول بأن المراد من إتيان السماء بدخان استحالتها إليه بعد تشققها وعودها إلى ما كانت عليه أولًا كما قال سبحانه: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] ويكون فناؤها بعد صيرورتها دخانًا.
هذا والأظهر حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أولًا لأنه أنسب بالسياق لما أنه في كفار قريش وبيان سوء حالهم مع أن في الآيات بعد ما هو أوفق به، فوجه الربط أنه سبحانه لما ذكر من حالهم مقابلتهم الرحمة بالكفران وأنهم لم ينتفعوا بالمنزل والمنزل عليه عقب بقوله تعالى شأنه: {فارتقب يَوْمَ} إلخ، للدلالة على أنهم أهل العذاب والخذلان لا أهل الإكرام والغفران.